خطبة جمعة بعنوان: سلامة الأيد واللسان من إيذاء عباد الرحمن، للدكتور خالد بدير
خطبة جمعة بعنوان: سلامة الأيد واللسان من إيذاء عباد الرحمن، للدكتور خالد بدير
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: حث الإسلام على سلامة الأيد واللسان
العنصر الثاني: نهي الإسلام عن الإيذاء بجميع صوره
العنصر الثالث: متانة الروابط الاجتماعية وأثرها في بناء المجتمع
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: حث الإسلام على سلامة الأيد واللسان
لقد أمرنا الإسلام بحفظ الجوارح عامة واللسان خاصة لأنه مدار الثواب والعقاب؛ ولهذا سأل معاذ -رضي الله عنه- الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:” يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّ مَا نَتَكَلَّمُ بِهِ يُكْتَبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ:”ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمَتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ” (الترمذي والطبراني واللفظ له)؛ ولذلك فإن الفم بما يحويه من اللسان أكثر ما يدخل صاحبه النار؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: “تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ”[ السلسلة الصحيحة – الألباني ]
أحبتي في الله: إن الكلمة بنوعيها تخرج من عضو واحد وهو اللسان؛ ويصبح اللسان طيبا أو خبيثا تبعا لما يخرج منه من كلام!! لأن اللسان آلة تستخدم في الخير والشر؛ وأن استعماله في الخير شكرٌ للنعمة؛ واستعماله في الشر كفرٌ بالنعمة. ” روي أن لقمان كان عبدا حبشيا نجارا ، وأن سيده قال له : اذبح لي شاة ، قال : فذبح له شاة فقال : ائتني بأطيبها مضغتين ، فأتاه باللسان والقلب ، قال : فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ قال : لا ، فسكت عنه ما سكت ، ثم قال : اذبح لي شاة ، فذبح له شاة قال : ألق أخبثها مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ، فقال له : قلت لك ائتني بأطيبها ، فأتيتني باللسان والقلب ، ثم قلت لك : ألق أخبثها مضغتين ، فألقيت اللسان والقلب ، قال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .” ( مصنف ابن أبي شيبة )
لذلك دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عفة اللسان، وطيِّب الكلام والبعد عن السَّبِّ واللعن؛ وفحش الكلام؛ ففي سنن الترمذي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ». والطعان: الوقَّاع في أعراض الناس، واللعان: كثير اللعن. والفاحش: الذي يتكلم بما يثير الشهوة. والبذيء: الكلام الذي يحمل عليه عدم الحياء.
وفي هذا الحديث فائدة: أن الطعن والجرح كما يحدث بالسيف والسنان يحدث باللسان، فالأول جرح حسي، والآخر جرح معنوي، ولربما كان الجرح المعنوي أشد مرارة وأكثر ألماً من الحسي.
لذلك ينبغي على كل إنسان أن يحفظ لسانه ولا يتكلم إلا بخير وإلا فالصمت أولى؛ وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الصمت – إذا كان الكلام يجلب شرا – شعبة من شعب الإيمان ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(متفق عليه) ؛ قال الإمام النووي – رحمه الله – في رياض الصالحين:” اعلم أنه ينبغي لكل مكلفٍ أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرامٍ أو مكروهٍ؛ وذلك كثيرٌ في العادة، والسلامة لا يعدلها شيءٌ.”
وفي ( حلية الأولياء ) :” أن الإنسان ينبغي له أن لا يخرج من كلامه إلا ما يحتاج إليه ، كما أنه لا ينفق من كسبه إلا ما يحتاج إليه وقال : لو كنتم تشترون الكاغد ( الورق الذي يُكتَبُ فيه) للحفظة لسكتم عن كثير من الكلام .”
وليكن لنا القدوة في سلفنا الصالح وحرصهم على الكلم الطيب وملازمتهم الصمت إلا لحاجة خشية الوقوع في الحرام ” ففي الأثر: أن عمر اطَّلع على أبي بكر وهو يضع حصاة في فيه، يمنع بها نفسه عن الكلام، ويمد لسانه بيده، فقال: ما تصنَعُ يا خليفة رسول الله؟ قال: إنَّ هذا أوردني الموارد؛ وهذا عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ ( رضي الله عنه) أَمْسَكَ لِسانَهُ وخاطَبَهُ قائِلاً : يا لِسانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ واسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَم. وقال عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- أيضا: واللّه الّذي لا إله إلّا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من اللّسان” ( إحياء علوم الدين )
لذلك كان أحد الصالحين يجلس في المقابر ولما سئل عن هذا قال: أنا عند أقوام إذا جلست عندهم لا يؤذونني وإذا غبت عنهم لا يغتابونني!!
عباد الله: إن حفظ اللسان نجاة للعبد في الدنيا والآخرة؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: ” أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ؛ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ؛ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ “(الترمذي وحسنه)
وقد ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن حفظ لسانه من خبيث الكلام؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ؛ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ” (البخاري)
أحبتي في الله: إن صلاح اللسان صلاح لأعضاء الجسد كلها؛ وفساده فساد لأعضاء الجسد كلها؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرفُوعاً قَالَ:”إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا؛ وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا”[ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ]
أيها الإخوة المؤمنون: اعلموا أن جوارحكم هذه شاهدة عليكم يوم القيامة بكل ما عملت من خير أو شر ؛ قال تعالى: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }( يس: 65 )؛ قال ابن كثير: ” هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.”
فتفضحه جوارحه على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:” كنا عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فضحك فقال ” هل تدرون مما أضحكُ ؟ ” قال قلنا : اللهُ ورسولُه أعلمُ . قال ” من مخاطبة العبدِ ربَّه . يقول : يا ربِّ ! ألم تُجِرْني من الظلمِ ؟ قال يقول : بلى . قال فيقول : فإني لا أُجيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني . قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا . وبالكرامِ الكاتبين شهودًا . قال فيختُم على فيه . فيقال لأركانِه : انطِقي . قال فتنطق بأعمالِه . قال ثم يُخلّى بينه وبين الكلامِ . قال فيقول : بُعدًا لكُنَّ وسُحقًا . فعنكنَّ كنتُ أناضلُ ” ( مسلم )
واعلم يا عبدالله أن كل عملٍ تعمله على الأرض ستشهد عليك بذلك يوم القيامة، قال أبو هريرة: «قرأ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أتدرونَ ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن من أخبارِها أن تشهدَ على كلِّ عبدٍ وأمَةٍ بما عملَ على ظهرها؛ أن تقول: عملَ كذا وكذا يومَ كذا وكذا، فهذه أخبارها». ( رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه) ؛ فهي تشهد على من خان عليها!! ، وتشهد على من سرق عليها !! وتشهد على من زنى عليها !! وتشهد على من أهدر المال عليها!! وتشهد على من هرب من عمله وقصر فيه عليها!! وتشهد على من سفك دماء الأبرياء عليها!! وتشهد على قُطَّاعِ الطرق والمحاربين عليها!! لذلك قال صلى الله عليه وسلم: “تَحَفَّظُوا من الأرضِ ، فإنها أُمُّكُمْ ، وإنه ليس من أحدٍ عامِلٍ عليها خيرًا أو شَرًّا إلا وهي مُخْبِرَةٌ به “( الطبراني وضعفه الألباني )
العنصر الثاني: نهي الإسلام عن الإيذاء بجميع صوره
لقد نهى الإسلام عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ قال تعالى: “وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا” (الأحزاب/ 58). وصور إيذاء الغير في حياتنا المعاصرة وبين أفراد المجتمع كثيرة وعديدة:-
منها: التدخل في خصوصيات الأقارب والجيران وتتبع عوراتهم وغير ذلك. فعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : ” صعِدَ النبيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر فنادَى بصوتٍ رفِيع ، فقال : يا معشرَ مَنْ أسلَمَ بلسانِهِ ولمْ يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه .. لا تُؤذُوا المسلمِينَ ولا تُعيرُوهُمْ ولا تتَّبِعُوا عورَاتِهِم ؛ فإنَّ مَنْ تتبَّعَ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَه ، ومنْ تتبعَ الله عورتَه يفضحْهُ ولو في جوفِ رَحلِه ” ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة ، فقال : ما أعظمك وما أعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمةً منك” ( ابن حبان والترمذي بإسناد صحيح .)
ومنها: الإيذاء المنتشر في القرى والريف ومنع مرور روافد الري والصرف عن الغير – مع أنها لا تضر صاحب الأطيان- ؛ ناهيك عما يحدث جراء ذلك من تقاتل وتشاحن وتباغض قد يؤدي إلى إزهاق أرواح؛ فعن يحيى المازنيّ:” أنّ الضّحّاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض، فأراد أن يمرّ به في أرض محمّد بن مسلمة، فمنعه، فقال له: لم تمنعني، ولك فيه منفعة، تشرب فيه أوّلا وآخراً، ولا يضرّك؟ فأبى (محمّد) فكلّم الضّحّاك فيه عمر بن الخطّاب. فدعا عمر بن الخطّاب محمّد بن مسلمة، فأمره أن يخلّي سبيله، فقال محمّد: لا واللّه، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرّك؟ فقال: لا واللّه، فقال له عمر: واللّه ليمرّنّ به ولو على بطنك، ففعل الضّحّاك” ( موطأ مالك )؛ وما أكثر تلك الصور في الواقع المعاصر!!
ومنها: إيذاء المصلين بتخطي الرقاب في يوم الجمعة؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَجَعَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ :” اجْلِسْ ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ.”(أحمد وأبوداود والنسائي والحاكم وابن ماجة واللفظ له) وآنيت: تأخرت
ومنها: الإيذاء الذي يبطل ثواب الصدقات والأعمال الصالحة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى…} (البقرة/ 264).
ومنها: إيذاء الملائكة؛ فعن جابر- رضي اللّه عنه- قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أكل البصل والكرّاث. فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها. فقال: «من أكل من هذه الشّجرة المنتنة فلا يقربنّ مسجدنا. فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه الإنس» (مسلم)
ومنها: تعدي الإيذاء إلى الله – في علاه- بسب الدهر واليوم والشهر والسنة والساعة؛ وهذا شائع على ألسنة العوام والجهال؛ فعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “قال اللّه- عزّ وجلّ-: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر بيدي الأمر، أقلّب اللّيل والنّهار” (البخاري ومسلم)
ومنها: أذى الجيران؛ والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير , فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:” وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: الْجَارُ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : شَرُّهُ.” (البخاري وأحمد )
ومنها: إيذاء الناس في طرقهم ومجامعهم؛ وإزعاجهم بالصراخ أو الصفير، أو رفع أصوات المذياع أو الأشرطة بحيث تزعج المارة ويصل إزعاجها إلى داخل البيوت، فتوقظ النائم، وتضجر المريض ، ومنهم من يغلق الطريق بسيارته للحديث مع آخر.
ومن صور الأذى في الطريق: إلقاء النفايات فيها، ولا سيما ما فيه خطر كالزجاج والمسامير، أو ما فيه روائح خبيثة تؤذي المارة، وفاعل ذلك يجني من الأوزار بقدر ما آذى من المارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم»؛ (رواه مسلم). وأخرج الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ في طُرقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ».
وإذا كان الإنسان لابد من جلوسه في الطريق فعليه أن يعطي الطريق حقه؛ وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم آداب الطريق وحقوقه في حديث جامع شامل مانع؛ فعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ»؛ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وكف الأذى كلمة جامعة تتناول كل أذى بالقول أو الفعل أو الإشارة.
بل ينبغي على المسلم أن يرفع عن الطريق ما يؤذي المارة من حجر أو شوك أو كل ما يسبب ضررًا بالآخرين، وهذا من كمال الإيمان وإحدى شعبه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».(مسلم)؛ بل عده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصدقات فقال:”كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ؛ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ؛ قَالَ: وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ؛ وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ”(مسلم)، بل إن ذلك قد يكون سببا في دخولك الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَط غُصْنَ شَوْكٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِمَّا كانَ في شَجَرَةٍ مُقَطَّعَةٍ فَأَلْقَاهُ، وَإِمَّا كانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ بِهَا فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ».( البخاري ومسلم) .
وعن أبي ذرّ- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «عرضت عليَّ أعمال أمّتي. حسنها وسيّئها. فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطّريق. ووجدت في مساوىء أعمالها النّخاعة تكون في المسجد لا تدفن» (مسلم)
عباد الله: إن إيذاء الغير يشمل كل أذى حسي ومعنوي فيدخل في ذلك الاعتداء على مال الغير وأهله وولده ودمه والاستيلاء على أملاكه بغير وجه حق؛ ويشمل أيضا الاستهزاء واللمز والسخرية بالغير؛ ومن الإيذاء الشائع الطعن في أنساب الناس والنقيصة لهم في المجالس على سبيل التشهي واللهو.
أيها المسلمون: إنه ينبغي أن نربي أنفسنا على الكف عن الأذى بجميع صوره؛ ونتحلى بمكارم الأخلاق الفاضلة، ونجعلها سلوكا نتعامل بها في واقع الحياة قبل أن يأتي يوم لا ينتفع الصائم بصومه، ولا المصلي بصلاته، ولا المزكي بزكاته. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ” أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”(مسلم)
إن المسلم كما يؤجر على فعل الطاعات وبذل المعروف, كذلك يؤجر على كف الأذى, قال أبو ذر: ” قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ ضَعُفْت عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّك عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْك عَلَى نَفْسِك ” (متفق عليه)
العنصر الثالث: متانة الروابط الاجتماعية وأثرها في بناء المجتمع
أيها المسلمون: إذا كان الشارع قد نهى عن أذى المسلمين – كما سبق ذكره في عنصرنا السابق- فإن ذلك لعظم حرمة المسلم ولأنه يفضي إلى وقوع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويؤدي إلى انتشار الفوضى وزعزعة الأمن وقطيعة الرحم وانصرام حبال المودة بين الأصحاب.
بل إن الإسلام حثنا على الإحسان والمحبة فيما بيننا لأن ذلك أدعى إلى كمال الإيمان؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.( أحمد والترمذي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة)
عباد الله: إن المسلمين كلهم كالفرد الواحد وكالجسد الواحد؛ تسعد الأعضاء كلها بسعادته وتحزن لحزنه، فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :”مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”(مسلم)
وعَنْ أَبِي مُوسَى؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.” (متفق عليه)؛ وهنا تصوير بلاغي للتضامن بين أفراد المجتمع صوره لنا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث شبه الأفراد باللبن في الجدار؛ وشبه المادة التي تمسك اللبن وتشد بعضه بعضا وهي ( الأسمنت المخلوط بالرمل – المونة ) بالعلاقات والتضامن الذي بين أفراد المجتمع؛ فإذا فسدت المادة التي تمسك البنيان وتشده فلا شك أن مصيره إلى زوال وانهيار وهدم ؛ وكذلك العلاقات الإنسانية والأخلاقية والتضامن بين أفراد المجتمع إذا فسدت فإن المجتمع مصيره كذلك إلى زوال وانهيار وهدم!!!
وأخيراً نداء ورجاء:
يا من ينطلق لسانه بالغيبة والنميمة.. يا صاحب النكات الفاحشة، والطرائف المكذوبة.. يا صاحب التحريش بين المسلمين.. يا من اعتاد أذية إخوانه..يا من تسعى إلى تمزيق الروابط الاجتماعية من أجل هدم المجتمع… توقف وامتنع .. واجعل منه انطلاقة إلى التوقف عن كل هذا فيما بعد رمضان: من أجل حفظ صيامك الذي صمته في رمضان، ومن أجل حفظ بقية أعمالك الصالحة: أن تحبط وأنت لا تشعر.. ومن أجل أن لا تتكاثر ذنوبك فتهلكك.. اترك لأجل ربك، والله يعين من جاهد فيه.
ويا من تعرض الناس له بالظلم والجهل والأذية، اعف واصفح واصبر لأجل الله.. فإن ذلك من عزم الأمور.
وليكن لك القدوة في حبيبك صلى الله عليه وسلم في عفوه وصفحه وتسامحه من أجل الله ومن أجل تبليغ رسالته وإقامة مجتمعه على متانة الروابط الاجتماعية؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ؛ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ؛ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ؛ لَعَنْتُهُ؛ جَلَدْتُهُ؛ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” ( مسلم) ؛ وانظر إلى عبدالله بن مسعود فقد جاءه رجل فقال: “إن لي جار يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ فقال ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه” (إحياء علوم الدين)
فأين نحن من هذه المعاني على أرض الواقع؟!! وأين نحن من التواد والتراحم والتضامن والتعاطف ؟!!
إنَّ الأمة الإسلاميَّة والعربية متى اجْتمعتْ واتَّحدتْ وتضامنت، لَم تستطعْ أُمَّة مَهْمَا كانتْ قوَّتها النَّيْل منها؛ لأن يدَ الله مع الجماعة، ولأنها مع اتِّحادها مَحمية بربِّها، وهذا ما عُرِف على مَرِّ السنين، فما قَوِيَتْ أُمَّة مُتفرقة مُشَتَّتة، وما ضَعُفَتْ أُمَّة اجْتمعتْ وتكاتَفَتْ وارتبطتْ بربِّها.
ألا فلنحتد ولنتضامن جميعاً؛ ولنسع إلى تقوية الروابط الاجتماعية من أجل بناء مجتمعنا، من أجل بناء وطننا، من أجل بناء مصرنا، من أجل بناء حضارتنا، بعيدين عن التفرقة، عن التشرذم ، عن التحزب، عن التشتت، عن القتل؛ عن التخريب؛ عن التدمير؛ حتى نحقق آمالنا، ويعلو بنياننا ، ونبلغ منانا، فنكون جميعاً أدوات بناء لا أدوات هدم!!
ومتى يبلغ البنيان يوماً تمامه………إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟!!!
نسألُ الله أن يَجمعَ شَمْلنا وقلوبَنا على طاعته، وأن يوحد بين صفوفنا؛ وألا يجعلَ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا.
الدعاء،،،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي